هي تلك القابعة بين ثنايا الضمير… صوت الحب في أرض أنهكتها الحرب… هي الأم والأخت والابنة… وهي من تملأ الفراغات عندما يفرضها الواقع… إنها المرأة وكل ما هو مؤنث في واقعنا العربي.
عندما ابتدأ سيل اللاجئيين يتدفق عبر الحدود الأردنية من سوريا، كان أكبر ملامح اللجوء هو الأعداد الكبيرة من النساء والأطفال. هربت النساء بأطفالهن بحثا عن الأمان وحملن معهن سنوات من التهميش وضياع الحقوق في التعليم وبناء الشخصية المستقلة وضعف في الاستثمار ليتمكنّ من لعب أدوار تفوق ماهو متوقع وتقليدي. وجدت معظم النساء أنفسهن وجها لوجه مع واقع جديد يتطلب منهنّ إدارة الحياة وتأمين المتطلبات ما كبر منها وما صغر لأطفالهنّ ومن رافقهنّ ممّن تبقى من أفراد الأسرة.
ولكي نفهم حقيقة الأمور لابد لنا أن نذكر أن القادمات إلى الأردن كنّ في معظمهنّ من الجنوب السوري الذي يغلب عليه الطابع العشائريّ المحافظ والذي قد أغفله الزمن فلم تمرّ به عجلة التغيير والتمكين لأسباب عديدة. من نفس الجنوب ابتدأت ثورة على المُسَلّمات. وكانت المرأة في كل الأحداث مغلوب على أمرها ومحصورة في أدوارها التقليدية. خروجها من محيطها المبني على اتكاليتها على الرجل وما يقدمه، كان من احدى التحديات التي لم تتفكّر بها وهي تشقّ طريقها القصير الطويل بين بيتها ومخيمات اللجوء.
الكثيرون من العاملين في مجال الاستجابة لحالة اللجوء عمدوا لتصميم برامج تهدف لإسناد المرأة وتمكينها حتى لايهزمها التغيير الذي أجبرها أن تعتمد على ذاتها في تدبير الحياة. اليوم وبعد ثلاث سنوات من اللجوء، لم تعد تجد ملامح المرأة الضعيفة في أي زاوية من زوايا مخيم الزعتري. أصبَحْتَ ترى في وجه كل امرأة إنسانا مدركا لأدواره العديدة وقادرا على التنقل بين هذه الأدوار بسلاسة متناهية. تمكنت الأنثى من أن تنتزع الحق في “أن تكون” من محيط قاس وواقع لايرحم. أصبَحْتَ تراها في لجان عدّة تحاور وتفاوض في كال ما يتعلق بشؤون الحياة. أصبحت تراها تعمل في المواقع المختلفة داخل المخيم وتتقاضى أجرا نظير عرق جبينها لتسد به رمق الأسرة. باتت أقوى وأصلب ولازالت تلك الأنثى أنثى!
ما يجدر التوقف عنده هو ما طرأ من تغيير على المكوّن المجتمعي الأنثوي. الآن وقد أدركت المرأة أبعادا جديدة في الحياة ولعبت أدوارا لم تكن “مسموحة” لها في الماضي، ماذا سيحدث لها بعد الحرب؟ هل ستعود ليغلق عليها باب وتمنح أو تمنع حقّا هو لها، أم أن نضالها سيستمر للمحافظة على هامش الحريات التي ولدت من رحم الحرب؟ كيف لنا أن نكفل لها المساحات اللازمة في وعي المجتمع وتركيبته لتبقى القوية القادرة على الإسهام فيما سيأتي من الأيام؟ بالرغم من قساوة الحرب، إلا أنه مما لاشك فيه أن العديد من المعارك دارت ولازالت تدور على هوامش المعارك الكبرى. من هذه المعارك ثورة المرأة على التقاليد العشائرية وإدراكها لإمكاناتها وحصولها على مساحات لم يكن وطنها أو معيلها أو مجتمعها “ليهبها” إياها طوعا. هذا من شأنه أن يكون بداية لانطلاقة المرأة نحو الحياة التي تستحق، أو بداية لثورة مجتمعية عند عودتها. أن يعتقد المجتمع بأنه سيبدأ حين عودة اللاجئين واللاجئات من حيث توقف، ليس ممكنا بعد الآن. لابد من التحضير للواقع الجديد لسوريا التي كانت في بعض مدنها وقراها محافظة، حتى تتمكن من الترحيب بالعائدات الأحرار من قيد المجتمعات الذكورية في زمن فائت.
من الأسئلة التي لابد من التعامل معها الآن في محاولة للتحضير لغد أكثر حرية، هو مفهوم الحق والمواطنيّة الصالحة لكلا الجنسين. كيف علينا أن نبدأ التحضير للمستقبل في الوقت الحاضر؟ ضمان الحق والقيام بالواجب هو عماد المجتمع المدني وضمان المساواة في الحقوق والواجبات مع احترام الفروقات الجندرية هو حتمية لتحرير وعتق الأفراد وبالتالي المجتمعات من عقلية الدولة المهيمنة لفضاءات يكون فيها الفرد شريكا بالكامل. وهذا تحد آخر لابد من التأمل في تفاصيله. لايستطيع المجتمع أن يحترم حرية المرأة إذا كان هو نفسه مكبلا بمحددات يعتقد أنه لا كسر لطوقها. انتفاضة وثورات الشعوب ضد القهر والاستبداد، يجب أن تؤخذ بشمولية، بحيث لايقتصر العتق من الاحتلال الفكري على جنس أو مكون أو شريحة أو مدينة، بل يكوت شاملا لكل من يعيش على أرض ما.
إن من أكثر ما أنهك موضوع حرية المرأة في مجتمعاتنا العربية، هو النظر بقصر إليها وكأنها “مضاف إليه” و “مفعول به” وليس فاعلا له كامل حقوق المواطنيّة وعليه كافة الواجبات كما على الذكور في المجتمعات. إن حرية المرأة تبدأ بتحرر الرجل من خوف وخلط الحرام بالعيب، وشعوره بكيانه بحيث لا يصبح نجاح المرأة تهديدا لكينونة الرجل. وكما نحتاج للمرأة في زمن الحرب “لتملأ الفراغ”، فهي شريك رئيس في زمن الرخاء والبناء. الحق لا يمنح ويمنع وفقا للظرف، وإنما يغرس في الروج كما كل الأشياء الصادقة. وأن نقزم النقاش ليتناول حق المرأة في مجتمعات مفهوم الحق بها مشوه، لهو معيب.
في زمن الحرب تنتزع المرأة الدور، أو يوكل إليها بحكم الحاجة. السؤال، هل ستقبل ذات المرأة بأن تكمم وتغطى وتهمش عندما يحين زمن البناء والرخاء؟ قد تنتهي الثورات السياسية بشكل أو بآخر، ما علينا التحضير له هو ثورة المجتمعات على ذاتها، كسر الطوق وفك القيد وإعادة حبك النسيج المجتمعي، حيث الأنثى هي الألوان في زمن صارت فيه كل الألوان من درجات الرمادي.
أقول بصوت المرأة في مخيمات اللجوء، أنه حتى من تحت ردم الحرب استطاعت المرأة أن تنبت غرسا للحرية، فمن سيقف ليتحداها الآن وهي باتت تدرك أنها تستطيع أن تكون؟ّ